هذه رسالة.. أين ساعي البريد؟

 


 (1) 

محاولة اعتذار




لو كان " الضوء"  في بيتي ساطعا لما ترددت بالكتابة عن موضوع آخر، ربما استطعت وقتها منعكم من التثاؤب أو الهروب ضجرا.


حسنا، ما زال الضوء رديئا في بيتي، وفي بيوتكم، وأنا أبحث عن ساعي بريد تنحصر مهمته  في دعوة كل الأنقياء إلى عمل جماعي يسمح للشمس بأن تندلق على حائط من لا يحتمل "رؤية ما لا يُرى" بتعبير الجرجاني، أو بشكل أكثر تحديدا، على حائط من لا يجرؤ على رؤية الأشياء والمفاهيم والآراء بشكل يخالف الصورة التي فُرضت عليه؛ حيث الرؤية المتفردة تقضُّ مضاجع السلطات والسلطات البديلة.


ومع أن الدعوة إلى "التنوير"، نفسها، صارت تُرجم بالتّهم المعلّبة والأفكار المُسبقة؛ بسبب عجز "العين المنضبطة" للمجتمع العربي "القاصر" عن رؤية المصطلح بشكل مبتكر، أو استخدامه بطريقة إبداعية، إلا أن الجهر بها - رغم كل العواقب- خطوة أولى يتغيّاها التنوير. 



(2) 

ما هو التنوير؟

الطريف في الأمر، أن كبار الفلاسفة الألمان تبنوا أفكار التنوير الفرنسية في القرن الثامن عشر، دون أن ينشغلوا بتعريفها للعامة – وهي علّة النخب على ما يبدو-، حتى  جاء عام 1784م عندما نشر رجل دين اسمه تسولنر، مقالة انتقد من خلالها الزواج المدني في العدد الذي يحمل رقم (1783) من "مجلة برلين الشهرية"، ودسّ فيها سؤالا مستفزا مفاده: "ما هو التنوير؟ هذا السؤال الذي يعادل تقريبا في أهميته (السؤال: ما هي الحقيقة)، ولا بد من الإجابة عنه قبل البدء في فعل التنوير، ومع ذلك فإنني لم أعثر في أي موضع على جواب عنه".




ويبدو أن السؤال المباغت حرّك الماء الراكدة ودفع عددا من المفكرين إلى محاولة الاشتغال على المصطلح، إلا أن إجابة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 - 1804) عن السؤال التي أفرد لها مقالة نشرها في العدد(1784) من نفس المجلة، تحولت إلى علامة فارقة في تاريخ الفلسفة، وأطلق من خلالها صيحته التنويرية التي اختصرها بشعار: "تجرأ على استخدام فهمك الخاص". 



(3) 
التنوير عند "كانط"  

يقول "كانط" في تعريفه للتنوير إنه خروج الإنسان من حالةٍ سجن نفسه داخلها في شكل طوعي. الحالة التي أطلق عليها اسم "القصور"؛ هي التي يكون الإنسان فيها عاجزا عن استخدام فهمه الخاص، لافتا إلى أن نشوء هذا القصور لا يكمن في غياب الفهم، بل في الكسل والجبن، وغياب الجرأة والمقدرة على اتخاذ القرار دون توجيه أو وصاية.



ويطرح فيلسوف النقد والتنوير أنموذج "القاصر" يقابله – بالضرورة- معادله الموضوعي الذي يطلق عليه اسم "الوصي"؛ إذ لا وجود لأحدهما دون الآخر؛ فيقول إن: " الراحة التي تحصل عليها طائفة كبيرة من الناس بسبب الكسل والجبن، هي التي تجعلهم يظلون، عن طيب خاطر، قاصرين طوال حياتهم، حتى بعد أن تكون الطبيعة قد حررتهم من كل قيادة خارجية، ويجعل آخرين ينصبون أنفسهم بسهولة أوصياء عليهم".

كما يؤكد أن الفرد -غالبا- لا يستطيع الخروج من حالة  "القصور" التي طبعت تصرفاته بأنماط معينة من السلوك حولته إلى عاجز عن استخدام فهمه الخاص، لأنه لم يسمح له أبدا بأن يحاول ذلك.
لكنه لا ينفي قدرة المجتمع على تنوير ذاته بتوفر شرط الحرية بالإضافة إلى قدرة " الأوصياء الجدد" على نشر روح تقدير عقلي لقيمة كل فرد واستعداده لأن يفكر اعتمادا على نفسه، إلا إنه لا يستمر بتفاؤله هذا إلى النهاية، إذ يلفت إلى الضرر الذي يسببه ترسيخ الأحكام المسبقة، لأنها تنتقم لنفسها-لاحقا- من أولئك الذين كانوا هم أنفسهم أو أسلافهم واضعيها، محذرا من أن المجتمع لا يمكن أن يبلغ التنوير إلا بتأنٍ.

ويخلص إلى أن الثورة:" قد تطيح بالاستبداد الشخصي والاضطهاد المتعطش للمصلحة المادية أو السلطة، ولكن لا يمكن أن تؤدي أبدا إلى إصلاح حقيقي لنمط التفكير، بل فقط إلى استخدام أحكام مسبقة جديدة، مثلما كانت تستخدم القديمة، كشريط موجه للأغلبية التي لا تفكر".


ولا يغيب عن بالي وأنا أنقل رؤية "كانط" عن العلاقة التي تربط بين التنوير والثورة، أن أنوه بأنه رحّب بالثورة الفرنسية التي قال عنها حينما نقلت إليه صور الرؤوس المتطايرة على المقصلة:"إن كل هذه الفظاعات لا تقترب بشيء من استمرار الطغيان"!. 




( 4)
لماذا التنوير الآن؟
لا شك بأننا نعبر مرحلة حرجة، إلا أن خلافنا اللغوي أو الإيديولوجي حول وصف الأحداث "...."  داخل مسرح اللامعقول العربي والإسلامي وتسميتها بــــ"ثورة" أو "كبوة"، أو خلافنا العقائدي حول دفن فلذات أكبادنا في قبور بوصفهم شهداء أو رميهم في مزبلة التاريخ بوصفهم "قطّاع طرق"، لا يغيّر من الأمر شيئا.




المسرحية تدور ببساطة حول تصادم بين منظورين متنازعين، لا يقبل أحدهما بالآخر، وينصّب كل منظور منهما نفسه وصيا على فئة من المجتمع "القاصر"، ويتبادلان "السلطة" بشكل يشبه لعبة "الموسيقا والكرسي"، فيما الأغلبية "النائمة" تعاني الموت المجاني والتشرد واللجوء والآثار الجانبية لحبوب الاكتئاب ومنع الحمل.


ولأنني غير معنيّة بتزكية منظور راديكالي على آخر، أو مجرم على مجرم، أو نبي على نبي؛ فإن ما يعنيني بالدرجة الأولى أن أشير إلى أن استبدال وصي بآخر لا يعني أبدا الخروج من حالة "القصور"، وأن توزيعنا على حظائر الفريقين، سببه عجزنا عن ابتكار "منظور ثالث" و"رابع" و"خامس".



وبالعودة إلى "كانط" الذي أعلن تأييده لمبادئ الثورة الفرنسية -كما قلنا سابقا- إلا أنه رفض خيار الثورة بوصفه الخيار السليم للإصلاح، مشددا على أن خروج العقول من سجن "القصور" إلى فضاء الاستقلال الذاتي أمر لا ينفع فيه تحوُّل مفاجئ، كالذي يحدث في الثورات، وإنما يلزمه تربية عقلية ونقدية، ولو اعتبرنا ما حدث عربيا وإسلاميا "ثورة"، فنحن هنا نضع أصابعنا على جرحنا المفتوح.



 إذن، نحن ندرك أن مرحلة "التنوير" سقطت سهوا أو عمدا من تقويم ما يطلق عليه اصطلاحا "الربيع العربي" أو"الثورة"، بعد أن تجاهلنا دورها في تربية العقول لصياغة الإنسان الحرّ- القادر على رؤية ما لا يُرى-، ولكن هذا لا يعني على الإطلاق إن الوقت قد فات، فهناك أجيال بريئة تنتظر أن نمد لها خيط نجاة لننقذها من مصيرها كضحيّة أو جلاد، وخريطة جديدة لا تشبهنا رسّم حدودها "غرباء" لم يلتفتوا إلى صعوبة درس الجغرافيا على أطفالنا، وحقائب تجوب الحدود دون أحذية ولا رؤوس، وقلوب فقدت "بعدك على بالي" و"شو بحبك يا حلو" في ضجيج التفجيرات. 





(5)      

إلى ساعي البريد 


عزيزي:

تجاهل كل ما قرأته في الصفحة أعلاه؛ أنا أيضا لا أحب التعريفات ولا الفلاسفة ونظرياتهم. 

يكفي أن تقرأ  كلمات الإنكليزي جوزيف كونراد (1857-1924) عندما كتب في تقديم رواية له:
"أيّها القارئ: مهمتي؛ هي أن أجعلك تسمع. أن أجعلك تشعر، والأهم من ذلك كله أن أجعلك ترى. هذا كل ما في الأمر، وأهم ما فيه". 
.
.

عزيزي ساعي البريد:
            .... هذه الحمولة تكفيك.





Comments