(1) تمهيد
والعُهدة على الرّواة؛ أهلي،.. إنّ
مشكلة تأخّر الكلام التي عانيتُ منها في طفولتي، وصلت إلى حدّ مناداة فتاة جميلة
اسمها عبير بـــــــ"إب"، واشتهاء فاكهة طازجة تُدعى تفّاحة بـــ "
إح" حتّى وأنا على أبواب الخامسة من عُمري.
لكن.. يبدو أنّ الخلل المؤقّت، كان من باب "هدوء ما قبل العاصفة"؛ إذ زُيِّنَت شهادتي المدرسيّة في السّنة اللاحقة بملاحظة فارقة تضمّنت وصف "كثيرة الكلام"!، وكأنّني شخصيّة روائيّة خلقها صمويل بيكيت، في (اللامسمى) و( أوه..أيتها الأيّام الجميلة)، لتردّد – كما علّمها-: "يجب أن أقول الكلمات طالما هناك كلمات. يجب أن أقولها إلى أن تعثر عليّ، وتقولني"؛ وهي العبارة التي اقتبسها ميشيل فوكو في (الخطاب) وأضاف إليها: "..إنّه عناء غريب – خطأ غريب- ، يجب الاستمرار. ربما يكون ذلك قد حصل من قبل. ربما تكون الكلمات قد قالتني من قبل. وربما تكون قد حملتني إلى عتبة تاريخي، أمام الباب الذي ينفتح على تاريخي، والذي سيثير استغرابي إذا ما انفتح".
لكن.. يبدو أنّ الخلل المؤقّت، كان من باب "هدوء ما قبل العاصفة"؛ إذ زُيِّنَت شهادتي المدرسيّة في السّنة اللاحقة بملاحظة فارقة تضمّنت وصف "كثيرة الكلام"!، وكأنّني شخصيّة روائيّة خلقها صمويل بيكيت، في (اللامسمى) و( أوه..أيتها الأيّام الجميلة)، لتردّد – كما علّمها-: "يجب أن أقول الكلمات طالما هناك كلمات. يجب أن أقولها إلى أن تعثر عليّ، وتقولني"؛ وهي العبارة التي اقتبسها ميشيل فوكو في (الخطاب) وأضاف إليها: "..إنّه عناء غريب – خطأ غريب- ، يجب الاستمرار. ربما يكون ذلك قد حصل من قبل. ربما تكون الكلمات قد قالتني من قبل. وربما تكون قد حملتني إلى عتبة تاريخي، أمام الباب الذي ينفتح على تاريخي، والذي سيثير استغرابي إذا ما انفتح".
هو الكلام الفِضّة إذن، وبوصلة الحكمة تشيرُ إلى ذهب الصّمت المقدّس في إرثنا الثقافيّ، وعند الأمم الأخرى أيضا، حتى أنّ الهندوس في جزيرة "بالي" يحتفلون بيوم الصّمت الذي يصادف نزول الأرواح الشّريرة إلى الأرض- حسب اعتقادهم- ما يدفعهم إلى التزام بيوتهم، وتجنّب تشغيل التلفاز والحاسوب والأجهزة التكنولوجية الأخرى؛ للإيحاء بأنّ الجزيرة خالية من البشر.
ومنعًا للَّبْس، أقصدُ بالكلام هنا؛ الصّوت لا الصّدى، وكأنني على خُطى صاحب قناعة "إذا المرء أضحى كلّ شيء يقوله، كما لو كان يكتبه، لم يغدُ إلا قارئا يتكلّم"؛ جان جاك روسو، الذي اعتبر في (محاولة في أصل اللغات) أنَّ " المرء يؤدّي مشاعره عندما يتكلّم، وأفكاره عِندما يكتب، فهو –عند الكتابة- ملزم بأن يحمل كل الألفاظ على معناها العام، ولكن الذي يتكلّم ينوّع من الدّلالات بواسطة النّبرات ويعيّنها مثلما يحلو له، فإنّما يكتبُ المرء التّصويتات لا النّغم"، لافتا- وأتّفق معه - إلى أنّ " النّغَم والنّبرات ومختلف انعطافات الصّوت في اللغة ذات النّبر، هي التي تمنح التعبير أقصى ما لهُ من الطّاقة، وهي التي تقدر على تحويل الجملة من شائعة الاستعمال، إلى جملةٍ لا تستقيم في غير الموضع الذي هي فيه".
لا بد من وقفة قصيرة هنا، لأنّ التسليم برأي "روسو" حول الكلام المنطوق والمكتوب، يبدو مجحفا بعض الشيء، إذا أخذنا بعين الاعتبار؛- أولا- أنّ الكتابة تخففت من بعض شروط الكتابة الكلاسيكيّة القاسية، وأنّها- ثانيا- وفقا لـ"جاك دريدا"، يمكن تصنيفها إلى "كتابة حسنة وكتابة سيّئة؛ الحسنة طبيعيّة.النّقش الإلهي في القلب وفي النّفس، ثم المنحرفة والمصطنعة والتكنيكيّة والمنفيّة في خارجيّة الجسد"، الأخيرة التي قال عنها "إنّ ما تخونه الكتابة نفسها في لحظتها غير الصوتيّة هو الحياة"، وثالثا؛ أنّ الحياة العصريّة بتعقيداتها المختلفة ومع دخول التكنولوجيّا إلى تفاصيلنا النّهاريّة، وغرف نومنا، وأحلامنا، حوّلت الصّوت إلى حروف، حتّى أنّنا صرنا نضحك ونبكي ونعشق ونحزن كتابةً، وهو الموضوع الذي سنتناوله بتفصيل أكثر لاحقا.
وكي لا نخرج عن سياق الموضوع، أعترف لكم أن الخوض في الآراء المختلفة حول أنواع الكلام ومن بينها الكتابة لا يمكن تناوله ضمن هذه المساحة حتى لا تتحول هذه الكتابة إلى ما يصفه دريدا بـ" إنّ الكتابة عندما تقيم في إطار ضيّق مخصّص للأقليّة، تعدّ بمثابة مبدأ الموت والاختلاف في صيرورة الوجود"، لكنني فقط أشير إلى الرأي القائل بـــــ"الكتابة قبل الحرف"؛ بمعنى الكتابة قبل زمن ظهور الكتابة، أو ذاك الذي يجزم بأنّ "مفهوم الكتابة يتجاوز مفهوم اللغة ويحتويه"!.
وأيضا، لا بد من الإشارة إلى أنّني أركّز في مقالتي هذه على (الحكي) لا الكلام.
ما وجه الاختلاف؟ ... لا أعرف كيف أشرح الأمر، لكن ، هؤلاء الذين وقعوا في مِصيدة "غواية اللّغة" يدركون أنّ المرأة ليست نفسها الأنثى/ الشّباك والنّافذة / المِقعد والكرسي / القارورة والعُبوة/ العطر والعَبَق.
حسنا،.. هذا مقطع من نص شعري كنت كتبته سابقا، وهذه محاولة تفسير ثانية:
" الكَلام;
الذي قُلناهُ
دون شهيّة
تركناهُ يَبْرُد فَوْقَ الطّاولة
وخرجنا جَوْعَى
إلى
ما لم نَقُله".
( الكَلام) هو الذي تركناه يبرد فوق الطّاولة، ويستحق أن يُترَك، أمّا الذي "لم نقله" فهو "الحكي"؛ لأنّ (الحكي) لا يكون باردا أبدا.
( الكَلام) هو الذي تركناه يبرد فوق الطّاولة، ويستحق أن يُترَك، أمّا الذي "لم نقله" فهو "الحكي"؛ لأنّ (الحكي) لا يكون باردا أبدا.
وفي
محاولة ثالثة؛ ما هو (الحكي):
" إنَّ الكلام والغناء كانا نفس الشّيء فيما مضى" ؛ يقول سترابون. أمّا أنا فأقول، إنّ هذا الكلام "البكر" الذي يرتقي إلى منزلة الغناء، هو نفسه (الحكي).
" إنَّ الكلام والغناء كانا نفس الشّيء فيما مضى" ؛ يقول سترابون. أمّا أنا فأقول، إنّ هذا الكلام "البكر" الذي يرتقي إلى منزلة الغناء، هو نفسه (الحكي).
أو، في محاولة رابعة، تعالوا (نسمع) الشّاعرة السعوديّة أبرار سعيد، وهي تغني/ تحكي (الحكي):
" كلّ شيء يصبح هزيلًا
زائلًا
إذا ما أسندته
إلى الكلمة فقط
لأنها ستنفق مثل سمكة
ما أن تخرج من عناية الفم
من مائه وحمّاه
لكنني وبجهد محراث أشقّ
لها مكانًا في دمي
أريدها أن تكون البذرة
فقط
البذرة التي ستكسوني من
بعد
أشجارها العالية
والعصافير التي
ستظلّ تخشخش داخلها
إذا ما سال الضوء…".
وفي
محاولة أخيرة،
لماذا نقول إنّ شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" كانت تحكي، ولم نقل إنّها كانت تتكلم؟!
لأنّ الكلام كان سينتهي بها إلى مصير واحد هو الموت، ولأنّها ذكيّة، فقد اختارت أن تحكي حتّى لو لم يسمعها شهريار!.
إذن، الكلام موت، و(الحكي) حياة؛ واسألوا شهرزاد.
هل عرفتم وجه الاختلاف الآن؟.
يُتبَع ...
لماذا نقول إنّ شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" كانت تحكي، ولم نقل إنّها كانت تتكلم؟!
لأنّ الكلام كان سينتهي بها إلى مصير واحد هو الموت، ولأنّها ذكيّة، فقد اختارت أن تحكي حتّى لو لم يسمعها شهريار!.
إذن، الكلام موت، و(الحكي) حياة؛ واسألوا شهرزاد.
هل عرفتم وجه الاختلاف الآن؟.
يُتبَع ...
Comments