الأحد 27/3/2016



قرأتُ في موقع الـ BBC، أنّ فكرة العمل بالتوقيت الصّيفي التي بدأ تطبيقها في بريطانيا منذ 100 عام قبل أن تنتشر في كلّ العالم، تمّت بجهود عامل بناء متواضع الحال اسمه ويليام ويليت.

 قرأتُ في الفيس بوك، نصًّا جميلا لصديقتي الشّاعرة المدهشة مها العتوم، جاء فيه: (هذه صنعة الشّعر:/أن يُولم الأرضَ للحبّ/ والريح تبذره في الطريق/ لئلا يضلّ الحمامْ/ صنعتي../ أن أدلّ الحمام". أبديت إعجابي بالنص،وتساءلت بيني وبيني عن صنعة مطر آذار الذي ما بَرِحَ يجرحُ حنيني رغم نعومته.
هذه صنعة مطر آذار: الغياب.  


كنتُ تمشيّت قليلا قبل أن يباغتني المطر، فعدتُ إلى البيت مُبلَّلة بالماء والشّجَن؛ شجن "مجدرة البرغل" أولا، وأشياء أخرى لا أجرؤ على البوح بها، ثانيًا. 


منذ عشرةِ أعوامٍ كانت خديجة تزورني في بيتي لأول مرّة بعد زواجي؛ خديجة التي عاشت في بيت العائلة أكثر من خمسة وعشرين عامًا قبل أن تتزوج وتغادرنا إلى الغور ثم العقبة. نتحدّث ويرتفع صوت ضحكتي وأنا أسخر من لهجتها الجديدة: "ودّ عمّك؟ وبت جيرانكم؟". تدافع عن نفسها، ثم تستسلم أخيرًا:" من عاش مع قوم أربعين يومًا صار منهم". أبتسم للمفارقة، لأنّها لم تكُن إلا منّا رغم لهجتها الجديدة.


 تملي عليّ  طريقة إعداد بعض أصناف الطعام. أكتبُ كتلميذة مجتهدة في دفترٍ أزرق: " نظفي الدجاج جيدا وانقعيه بالملح والليمون. بهار القهوة وورق الغار لإزالة الرائحة الكريهة. الكمّون وجوزة الطّيب. اكشطي رغوة السّلق. اغسلي الأرز حتّى ينزل الماء المتساقط صافيًا. المنسف أسهل طبخة. الملوخية مثلا..". حتى وصلنا إلى المنطقة المحظورة: "أمّا مجدرة البرغل فعليكِ أن .."، قاطعتُها: " دعينا نتجاوزها، فأنا كما تعلمين لا أحبّها".


عندما هاتفني شقيقي قبل أقل من عام ليخبرني بصوتٍ مكسور أنّها ماتت، فجأة (كما يفعل الموتى عادةً)، لم أبكِ (كما اعتدتُ أن أفعل)، فقط، قلّبتُ أوراق الدّفتر لإيجاد طريقة إعداد مجدرة البرغل. الموت صفحة بيضاء فارغة في دفترٍ أزرق، وملامح منسيّة، وخذلان ثقيل.


الموت نتيجة أزمة ربو أو ذبحة صدريّة أو ارتفاع الضغط. لا فرق يا خديجة. لا فرق. الموت واحد.. على عتبة بيتك في العقبة حيث الشّارع يخلو من المارّة (هل صرختِ بأعلى صوتك. ضربتِ الأرض بقدميكِ. بكيتِ. مزقتِ ثيابك. استنجدتِ بـ"ود عمّك" أو "بِت جيرانك". استسلمتِ ؟)، أو فوق سريرٍ مزدوج  في عمّان. لا فرق يا خديجة.


فكرة الخذلان جاءت من مسلسل تركيّ سخيف، حضرتهُ مصادفة؛ البطل الذي تعرّض إلى حادث سير أو إصابة بسبب مشاجرة.. (لا فرق. لا فرق). يحتضر في المستشفى وتخطيط القلب يشير نحو لحظة الهلاك، حتى وصلت حبيبته ورجتهُ (مع موسيقى تصويريّة مناسبة)، أن يتشبّث بالحياة من أجلها. هكذا، يا للغباء!  يحيا البطل وحبيبته، ويموت قلبي؛ إذ أدركتُ أنّ موتاي لم يتشبثوا بالحياة من أجلي. من أجلنا. (لكنّني، .. كنتُ هناك. وقفتُ في ردهة المستشفى. لم أهرع إلى السّرير حيث يرقد البطل. صوت جرس الإنذار. أطباء يركضون في اتجاهٍ واحد. غرفة فيها سرير وأجهزة طبيّة. صراخ طفل. بكاء الأقارب. وقفت هناك مثل تمثال، ولم أحرّك ساكنًا).

 الموتى،  كم أكرههم. تسليمي أمام الأمر الواقع، كم أكرهه.


عندما قلتُ لمحسن إنني طبخت مجدرة البرغل، استأذن في تناول الطعام عند بيت جدّه لأنّه (كما أعرف) لا يحبّها،وافقت دون اعتراض، وأكلت السلطة واللبن فقط، لأنّني لا أحبّها أيضًا.


الآن؛ ثمّة غيّاب موتى في مطبخي يتناولون مجدرة البرغل سيّئة الذكر، أمّا أنا فأجلسُ إلى مكتبي لإنجاز أعمال متراكمة منذ الصباح. أفتح اللابتوب. أجري بعض المراسلات، ثمّ أبحث  في الأخبار المحليّة عن موعد بدء العمل بالتّوقيت الصّيفي.



Comments