فيروز: "كلّ ما الحَكي يطول أكتر" (2)





*"أُغْنية بلا كَلِمات،
              تبدو لكثرتها أغنية واحدة،
                       تَقولُ لكَ في غنائِها: إنَّ الوحيد في الحياة لا وجود له".
*شكسبير في سونيت 8
.
.


( 1)

شعر بالاطمئنان وهو ينظر إلى الطّابور الطويل الذي بات يتقدمه الآن. لم يَعُد  يفصلهُ عَنْ غايته إلا خطوة واحدة؛ الفتاة صاحبة الشّعر الأشقر الطويل، أمامه، تستلم أوراق نقد من موظف البنك القابع خلف لوح زجاجي. تدسّ المبلغ في محفظتها وتغادر. يتقدم خطوة. ينحني مقتربا من الفجوة الدائرية التي تتوسط الحاجز الزجاجي. ابتسامة الموظف تظهر أسنانه ناصعة البياض. يقول شيئا. ثمّة خِفّة غير مألوفة تُدهشه وهو يحرّك لسانه. يتكلّم. يحاول أن يتكلّم. تزداد ابتسامة الموظف اتّساعا. يدرك أن كلماته لم تتجاوز صدره. يتحسّس رقبته. يحاول دفع الكلمات إلى الأعلى . ما زال لسانه خفيفا وربما لم يعد في مكانه. لا يشعر بدغدغة وهو يمرره على سقف حلقه وشفتيه. يمدّ يده ويقبض عليه. يبدو محتفظا بشكله. عليه أن يقول شيئا. يضرب على قفصه الصدريّ. يختنق بكلماته. يلوّح بأصابعه. يكتب في الهواء: "فقدتُ صوتي.أنا أخرس". تتحول ابتسامة الموظف إلى ضحكة. ضحك كثير خلفه. قهقهات. كلمات؛ الكلمات التي يفتقدها. يكوّر قبضته. يضرب الحاجز الزجاجي. التّكسير صار صوته الآن.


نستطيع وصف الحالة نفسها؛ الخَرَس المفاجئ، وهي تنتشر كوباء يجتاح العالم؛ امرأة تخسر ثرثرتها وهي تشرب فنجان القهوة الصباحي مع جارتها. زوج سليط اللسان لا يستطيع انتقاد زيادة الملح في "حساء الخضار" الذي أعدته الزّوجة العاملة. تلميذ متفوق في المرحلة الابتدائية وهو يحاول أن يثبت لأستاذه أنه يحفظ "جدول ضرب الـرقم 7"... مواقف كثيرة، لم يكتبها جوزيه ساراماغو في روايته "العَمى"، لكنها تحدث بشكل أو بآخر، في روايةٍ تكتبها التكنولوجيا تحت عنوان "الخَرَس"، أو – تحديدا- انحباس الصّوت" أو "موته" بعد أن صرنا نكتب الكلمات حتى لا ننطقها.


ودعونا نتفق، أولا، أن "الكتابة/الكلام الذي فقد صوته" التي نناقشها هنا، تختلف عن الكتابة التي يمارسها الكتّاب؛ الكلمة التي وصفها –كما ذكرنا في الجزء الأول من المقالة- جان جاك روسو بـ" أنَّ المرء يؤدّي مشاعره عندما يتكلّم،
وأفكاره عِندما يكتب،..الخ".


( 2 )

فيما يذهب رولان بارت، في كتابهِ "هَسْهَسة اللغة" إلى اعتقاد مفاده:" لو كان لي أن أتخيّل روبانسون جديدا، لما وضعتهُ في جزيرة، ولكن في مدينة يقطنها 12 مليونا، وهو لا يعرفُ سبيلا لا إلى فكِّ الكلام ولا الكتابة؛ سيكون هذا، كما أعتقد هو الشكل الحديث للأسطورة"، أرى أن روبانسون الجديد غير مضطر إلى مغادرة بيته وعائلته؛ إذ يكفي أن نتخيّله جاهلا بوسائل التّواصل الإلكترونيّة.


بمعنى آخر، لم يعد عامل "اختلاف اللغات بين الشّعوب" هو العائق الأول أمام تواصلها الإنساني، بعد ابتكار ما يشبه "اللغة العالميّة الجديدة"؛ وهي لغة "حرباء" قادرة على التلوّن والتعولم بكبسة زرّ!.


فعلى المستوى الفردي نحتاج إلى محو الأميّة الإلكترونيّة، إضافة إلى امتلاك الأدوات الضروريّة لممارستها بوصفها "أعضاء النطق!" ، وهذه الأخيرة، تتعلق بالقدرة الماليّة للأفراد، أمّا على مستوى " الجماعات/ الأمم" فلا بد من "حوسبة" اللغات، وهو الباب الذي امتنعت "العربيّة" عن اقتحامه، ما تسبب في تأخّر الترجمة الآلية منها إلى اللغات الأخرى والعكس بالعكس.


وللإضاءة على هذه القضية، فالحوسبة تحتاج إلى إنشاء "مدونة" أي جمع مئات آلاف النصوص التي كُتبت باللغة العربية، قديمًا وحديثًا، وفي مختلف المجالات، إلكترونيًا ومن ثم دراستها بطريقة علمية حسابية، لاستخلاص النتائج حول قواعدها وأسس استخداماتها، ومعرفة تحولاتها، وتشكّل دلالاتها وتبدّل صيغها تاريخيًا، والتعامل معها من منظور جديد، وهي خطوة إجباريّة لتصبح الترجمة الآلية ممكنة، كما هي باقي اللغات.
 


عموما، تراجع شعبيّة "الكلام التقليدي" مقارنة مع تصاعد "الكتابة/الكلام الذي فقد صوته" رغم كل سلبياتها، مرحلة لا نستطيع القفز من فوقها، كما أن مجابهتها بالتقوقع داخل عزلتنا- سواء فرديّة أو جماعيّة- ليست  بطولة تستحقّ الإشادة، .. بانتظار أن يستردّ العالم إنسانيته، على الأقل.


( 3 )

اللغة. الكلام. الإنسان. الكتابة. الصوت. العالَم؛ هذه جميعا تتقاطع في بعض مستوياتها؛ فاللغة التي اعتبرها "دي سوسير" ذات طبيعة مستقلة عن الكلام؛ من حيث أنّها مجموع القواعد الصوتيّة والتركيبيّة النحويّة والصرفيّة والدلاليّة المعجميّة، أمّا الكلام فهو تحقيق المتكلّم لتلك القواعد وتوظيفها ومُمارستها بشكل واقعي؛ أيّ أن الكلام سلوكٌ فرديّ خاص يتوقّف على إرادة المتكلّم وبداهته، بينما اللغة ظاهرة اجتماعيّة عامة.


وبهذا الصدد،  يمكن التعرّف على بعض آراء  الفلاسفة حول اللغة؛ إذ يفيد غادامير أنّها أحدُ الألغاز العظيمة في التَّاريخ الإنسانيِّ، ويقول دلتاي إنها القناة التي تُمكِّنُ الإنسانَ من إنجاز الفهم، ويؤكّد فوكو إن اللغة هي تحليل الفكر، بينما يقول ريكور إنَّ فهمَ الإنسان لنفسه وللعالم من حوله يرتكزُ على اللغة التي تعبرُ عن هذا الفهم، أمّا هيدغر الذي يرى أنّ  اللغة أكبر من كونها أداة للتواصل، فهو يصفها بأنّها "مَسْكَنْ الكائن" أو "بيته".

وعودة إلى مارتن هيدغر، فقد عالج في محاضرته "الطريق إلى اللغة"، مسألة اللغة من زاوية الكلام؛ لافتا إلى أن الإنسان كائن لغوي، مستعينا بتأملات أرسطو اللغوية التي تقول إن اللغة إحدى وسائل التعبير الأكثر تعقيداً؛ فالكلام يعتمد على الأصوات التي تظهر المشاعر المُختلجة في النفس وتكشف المشاعر بدورها عن الأشياء التي تثيرها، وهنا يكمنُ فعلُ اللغة؛ في القدرة على الإبانة والكشف والحجب.

ويشدد هيدغر على أن الإنسان مُندرجٌ في حدوث اللغة، وأنَّ وعيه لا ينفصل عن هذا الحدوث إلا بقدر ما يستقلُّ عن اللغة، حيث يُتيحُ الكلام للإنسان البرهنة على موجوديته "إن حضور المتكلمين يتحقق بالأحرى في التكلّم، بحيث إن المتكلمين يتكلمون إلى بعضهم ومع بعضهم وإلى أنفسهم كذلك".
وفي معالجته لمسألة الصّمت يرى أنه حجبٌ لكلام لا ننوي الاعتراف به؛
إذ يتمُّ تغييبُ رموزٍ لا نرغبُ في الإقرار بها؛ لأنها لا تُعبِّرُ عن موقفنا تجاه الوجود:  "ينشأ المتكلَّم بكيفيات متعددة عن اللامتكلِّم، سواءً أكان هذا هو ما لم يُتكلَّم بعد، أو كان هو ذلك الذي يجب أن يبقى ممتنعًا على التكلَّم".

حسنا، مهما اختلفت الآراء وتقاطعت، يهمني أن نتفق على أنّ قصر اللغة ( أو ممارستها العمليّة/الكلام) على بُعدها التَّواصلي يهمشّها لأنها ترتبط بوجود الإنسان؛ وهذا ربما يفسّر إدمان البعض على مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أنها لا تحقّق الإشباع الكامل؛ بسبب غياب الصّوت والتفاعل المباشر بين المتكلمين.

... يُتبَع.

Comments