فيروز: "كلّ ما الحَكي يطول أكتر" (3)




*" بين النّطق والصَّمْت بَرْزخٌ فيه قَبْر العَقْل وفيهِ قبور الأشياء. 
إنما أحادثكَ لترى ، لا لتُحادث. فإذا حادثتُك رأيتَ فإذا رأيتَ، فلا حَديث".
 *(النفّري )
.
.
الكَوْن؛ هذا الثَّرثار.. الصَّيٍّتُ هَمْسًا؛ الطَّبيعةُ لغته.
السَّمَاء. الأرْض. الشَّجَر. البُحور. النُّجوم. الجِّبَال.الكواكب. الهَواء. التُّراب.الضّوء. العَتْمة..؛ حواسّ الكَوْن، المُدجَّجة بالكَلِمات الفَصيحة، لكنَّنا لا نُصيخ السَّمَع؛ نحنُ الذين نتحدَّر من سَمَاء هذا الفَم الكبير، ولا نَعبرُ ضِفَّة الكَلام إلى ضِفَّة المَعْنى المقابلة.

 تلك إذن مَعْصِيَة أولى؛ عندما لم نَسْتَعبِرْ الكَوْن عن رُؤاه الكامِنة في الطَّبيعة،  ولا الكَلِمات - التي يُشير آلبرتو مانغويل، إلى أنها "هديّة مِن العَالَم" و"تسبح في مكانٍ من المعاني المشتركة بين الجميع"- عن (الآخر)/ و(أنا)/ والكَوْن؛ هكذا تتلاحق الخَطايا!.

" مَعْصِيَة" و"خطيئة"؛ هذه ليست مُبالغة عِندما يتعلق الأمر بـتوقير "الكَلِمة"؛ إذ رُفِعَت مُنذ البدء إلى العالَم الدِّيني؛ عالم "المُقَدّس" بوصفها أداة للخَلْق والكَينونة والمَشيئة في الديانات السّماويّة الثّلاث، كذلك الأمر، في الدّيانات الوضعيّة واعتقادات الشّعوب البدئيّة؛ .. ففي ترتيلة الخلق لدى بولنيزيا التي تصف ما قبل البداية بــ".. في تلك الأيام لَمْ يَكُن هُناك صَوْتٌ ولا نأْمة.."؛ أي أنَّ الصّمت كان قبل الحياة، وهي تتحدث عن "تاناناوا" إذ يستحث العمليّة التي يزول فيها الصّمت الأصلي "موتوهي" من خلال تقديم نبرة "أونو" فيقترن "آتيا" بـ"الفجر الأحمر(آتانوا)"، وهنا يَبدأ الصّخب أو "قوّة الحياة"؛ وفقا للترتيلة.

وكَما أنّ الكَلِمة هي الأولى، فهي الأقوى، وغالبًا ما تكون اسم الإله، وليس الإله نَفسه، ولهذا تبدو المصدر الحقيقي للفاعليّة، وهكذا تروي لنا الأسطورة المصريّة، كيف أن "إيزيس" خدعت الإله "رع" وأقنعته بأن يفشي لها اسمه، ثم اكتسبت من خلال امتلاك الاسم، القوّة عليه، وسيطرت على جميع الآلهة الأخرى.

وفي الهند، تتعالى قوّة (الكَلِمة المنطوقة) حتى فوق قُدرات الآلهة، وفي أحد النّصوص الدينيّة الهنديّة، نقرأ: "على الكلمة المنطوقة تعتمد الآلهة جميعا، والوحوش والنّاس جميعا؛ ففي الكلمات تعيش المخلوقات كلّها؛ لأنّ الكلمة لا تَفنى، وهي أول وليد للقانون الأبديّ وأُمّ الفيدات، وسرّ العالم الإلهي".

لا أخطط لجمع مادة أنثروبولوجيّة، فالأمثلة كثيرة، لكن وبالعودة إلى حيث توقفنا،.. يبدو أننا لم نَنْجُ بما اقترفنا من خطايا - ولا أحَد يفعل- ، لهذا نُعاقَب بـــ"سوء فَهْمٍ" مُتبادَل مع الأشياء-والكَوْن شَيء-  والأشخاص من حولنا، وللمفارقة، مع أنفسنا أيضا، ولا بد من الإشارة هنا إلى ما أطلق عليه إريك فروم "اللغة المنسيّة"، وهي اللغة الرّمزيّة التي تتحدث بها الأحلام والحكايات والأساطير؛ تلك اللغة الحَميمة التي عوقبنا بنسيانها –ربما- بسبب "سوء الفَهْم" الذي تبادلناه مع أنفسنا، ويبدو أنّ المبدعين من الأدباء والفنّانين والفلاسفة– فقط - يمتلكون بعض مفاتيحها.


"كُلّ شيء فينا يَبْحَث عَن أوَّله"/ درويش
____________


لا الجّوع ولا العَطَش انتزعا من الإنسان أوّل التّصويتات، بل الحُبّ والكُره والشَّفَقة والغَضَب؛ هذا ما يَذهَب إليه جان جاك روسو، وهو يُفنِّد الادِّعاء بأنّ الإنسان اخترع الكلام للتعبير عن حاجاته، ويرى أنه لو لم تكن لَنا غير حاجات طبيعيّة، لأمكننا أن لا نتكلّم أبدا، وأن نتفاهم فقط بلغة الإشارة، ولكان بمقدورنا أن نقيم مجتمعات لا تختلفُ كَثيرا عمّا هي عليه اليوم، وأن نعمل من الأشياء بقدر ما نعمله منها بفضل الكلام.

و"الكَلام" الذي يتناوله "روسو" هُنا، ليس هو نفسه "البَيَان"، لأنّ الإبانة قد تتحقق دون فعل بشري، حسب هيدغر، وهذا كلام صحيح، لأنّ الكَوْن ثَرثار والأشياء تُبِين وتُبيِّن نفسها؛ كالسّحابة التي تُنذِرُ بالمَطَر أو بطن امرأة يُبَشِّر بطفل..، ولنتأمّل جماليّة التَّعبير الذي نقله "هيدغر" عن "جون بول" وهو يسمي ظواهر الطّبيعة بـ"إصبع البيان الرّوحي".

نحنُ نتكلّم– ضمن المعنى الذي حددناه أعلاه- تعبيرا عن مشاعرنا، أو إثباتا لموجوديّتنا- وفقا لرأي هيدغر، كما أسلفنا في جزءٍ سابق من هذه المقالة-، أو للبرهنة على موجوديّة الأشياء أو المشاعر المُتَكلَّم عنها؛ إذ أننا " نستعمِل الكلمات للتّعبير عن الأشياء والأحاسيس، ولكننا في الحقيقة، لا نرى تلك الأشياء ولا ندرك تلك الأحاسيس إلا من خلال الكلمات، والشَّيء الذي لا توجد له في لغتنا كلمة تعبّر عنه فكأنَّما هو غير موجود، وإن وجد في الكون المحيط بنا "؛ كما يقول أمبرتو إيكو.

اللّذة
_____________

في الفيلم المعروف " فورست غامب"، بطولة "توم هانكس"، هُناك جزء مُدهِش؛ إذ يبدأ "فورست" بالرّكض بعد أن تتركه "جيني" العائدة إليه بعد سنوات. لم يكن يهدف إلى تجاوز الشّارع الذي يسكنه، لكنَّه يقرر أن يركض إلى نهاية الحي، ثم إلى نهاية المدينة، ثم إلى نهاية الولاية، ثم إلى نهاية أمريكا، ليصل إلى الجانب الآخر.. في ركض متواصل دام ثلاثة أعوام، يتبعه خلالها مجموعة من المريدين الذين يعتقدون أن في ركضه حكمة، وأنَّه سيقولها لهم أخيرا؛ لكنَّه يقرّر التّوقف فجأة، ويهمس الرّاكضون خلفه: "سيقولها"، ولكنه لا ينطق أكثر من جملة واحدة: "لقد تعبت وعليَّ أن أعود إلى البيت".

لماذا ركَضَ فورست؟ .. هُناك تفسيرات كثيرة تتضمن رغبته بتجاوز القدر أو الإرادة أو غيرها؛ لكنني أجيب ببساطة: حتى يتجاوز الألم الذي أحدثه الفَقْد، لكن – وبرمزيّة مُبدِعة - يكشف لنا عن حجم الألم الشّاهِق الذي يعانيه، إلى درجة احتاج معها إلى استهلاك كل هذه الكميّة من هرمون (الأندروفين).

من المعروف، أنّ الجَّسَد يُفرِزُ هرمونات السَّعادة ( الأوكسيتوسين، والإندروفين، والسيراثونين، والدوبامين)- عند الرَّكض والمشي، مثلا، لكنني لم أعثر على معلومات تتعلق بدراسات علميّة تربط التَّكلُّم بإفرازات هرمونيّة معيّنة، وهو أمر مثير للاهتمام بالفعل، ويستحق البحث.. طالما نشعر باللّذة تجتاحنا أثناء ممارسة الكلام؟؛ وأقصد تحديدا، تلك الممارسة الكلاميّة التي لا ترمي إلى تحقيق غاية، كما هو الحال، على سبيل المثال، في "المونولوج" الذّاتيّ –صمتا أو جهرا-؛ أن نُنصِت إلى اللّغة التي نتكلّمها، أو بمعنى آخر؛ نتذوقها؛ الكلام بشكلٍ مجانيّ حتى نطأ الجهة المقابلة من الكلام!، .. رغم أن فرويد يقول: "ليس ثمّة أمر مجانيّ سوى الموت".

نستطيع أن نلمح معنى اللّذة، في أحد نصوص نيتشة، ويتناول فيه ضعف الصّلة بين الأسلوب الألماني والصّوت والأذن؛ "فالألماني لا يقرأ بصوتٍ عالٍ، إنّه يهمل الأذن عند القراءة، كما لو كان وضعها في الجارور"، ويقارنه مع الإنسان القديم الذي كان يقرأ على نفسه-إذا ما قرأ- ، أي كان يقرأ بملء الصّوت؛ "ذاك يعني بكلّ ما للصّوت من نبرات تتصاعد وتنثني وتنقلب وبكلّ ما للايقاع من تبدّلات، أي بكلّ ما كان يعجب به العالم القديم العلني".


أنْسَنة الآلة و"تكنكة الإنسان"
_________

تحدثنا في جزءٍ سابق من هذه المقالة، عن "الكتابة/الكلام الذي فقد صوته"، وهو عنوان لمرحلة نخضع فيها تحت وطأة ثورة تكنولوجيّة وظروف معيشيّة فرضَت علينا التّواصل باستخدام الآلة، وهو ما أسمّيه، تفاؤلا، "أنْسَنة الآلة" لا "تَكنكة الإنسان".

والحقيقة، أنّ طبيعة هذا النّوع من الكلام "الذي فقد صوته"، تشبه -إلى حدّ ما- الرّسائل الشخصيّة التي مارسها الإنسان منذ بدء الكتابة، وتحوّل بعضها إلى أدبٍ عظيم، عندما كتبها –على سبيل المثال- جبران خليل جبران، ومي زيادة، وغسّان كنفاني، وغادة السّمان، ومحمود درويش، وسميح شقير.

أقصد، أنّها كتابة شخصيّة تتحدث عن المشاعر والأفعال اليوميّة وردود الأفعال، الأمر الذي يُدرجها ضمن تصنيف "الكلام"، وهي تتوجه إلى أفراد بعينهم أو إلى جماعة محدودة أو عامة، وفي حالات معيّنة، يتوجه فيها الشّخص إلى ذاته.

كما رافقها ظهور لغة جديدة، حملت اسم "العربيزي"؛ حيث يستعير الشّخص الحروف اللاتينيّة لتعبّر عن كلماته العربيّة، فيما استغنى عدد كبير من الأشخاص عن القواعد اللغويّة التي تضبط الكتابة، وتداخلت مع اللهجات المحكيّة، ثم ظهرت "الوجوه التعبيريّة" ؛ حيث يكتفي الشخص باستخدامها للتّعبير عن مشاعره، ولا ننسى، أيضا، اختزال المشاعر أو الأفعال بنشر ومشاركة الصّور.

ورغم كل الآثار السّلبيّة المترتِّبة على الرّدّة الكلاميّة (العودة إلى استخدام الرّموز)، إلا أنّ الحكمة تفرضُ علينا تأمّل الواقع الزّاخر بأمثلة عمليّة تثبت أننا نجحنا، إلى حدّ ما، في استثمار الطّاقة الخلّاقة للنّص المكتوب، إذ تحوّل بعضها إلى نصوص أدبيّة رفيعة المستوى، دون أن ننكِر ظاهرة "الاستسهال " التي تسببت في خلق نماذج أدبيّة مشوّهة ورديئة.

وعودة إلى الحاجات والأسباب التي تدفعنا لممارسة الكلام، نجد أنّ النّص المكتوب يستطيع إشباعها كلّها- تعبيرا عن مشاعرنا، وبرهنة على موجوديّتنا والأشياء-، لكن تنقصنا، في المقابل، مهارات نصيّة تمنعنا من اختباره ضمن مجال "اللّذة" الذي خاض فيه رولان بارت، والاجتهاد في اكتساب وتطوير هذه المهارات سيرجّح كفّة النّص "الكلام المكتوب" على "الكلام الصّورة" الذي يحاول التقدّم من جهته إلى الصّفوف الأماميّة، مستخدما جاذبيته وسهولة استخدامه وقدرته الفائقة على التّعبير، وهو الأمر الذي يشكّل خطورة كبيرة علينا التّصدي لها، حتّى لا يموت "الكلام".

المطلوب الآن، التقاط الأنفاس،  والتّريّث قبل إطلاق الأحكام المتسرِّعة؛ فالتَّجربة ما زالت غضّة، ولا نستطيع تجاهل مؤشِّرات إيجابيّة تصبّ في مصلحتنا بوصفنا أمّة عانت وتعاني من ظواهر تواصل غير صحيّة، قد تُسهم وسائل التّواصل الإلكترونيّة بالحدّ منها.


"مَنْ يَشْهَد على الشّاهِد؟"/ باول سيلان
"من المستحيل أن نكذِّب المَوْتى"/ فيروتشو
__________________

هذه الرّواية "تريستانو يحتضر" للإيطالي أنطونيو تابوكي- نقلها للعربيّة معاوية عبد المجيد 2013 عن "دار أثر"-، تُحْفَة كلاميّة.

وهي عبارة عن "مونولوج" طويل، يمكن نقلها بسهولة إلى خشبة المسرح  ضمن فن "المونودراما"، لأنها تعتمد على ساردٍ واحد، إذ يتَّفِق محارب قديم يدعى "تريستانو" مع روائي سبق وأن كتب رواية عن أمجاده على أن يبوح له بقصّة حياته الحقيقيّة، قبل أن يموت؛ .. وهو يُفسّر فلسفته ببساطة:  "... ربّما لأنّ الإنسان يحمل حياته معه إلى قبره، وأقصد الحياة الحقيقيّة والخاصّة، تلك التي يعيشها المرء في صدره، ويترك للآخرين حياته الاجتماعيّة التي عاشها معهم خارج ذاته، وهي واضحة وحتميّة ولا تحتاج إلى توثيق، رغم ذلك لي رغبة بالكتابة؛ أي بالكلام .. أرغب بالكتابة عبر شخص وسيط، فمن يكتب هو أنت، لكنّه أنا، أليس هذا غريبًا".

يتكلّم "تريستانو" عن انتصارته وهزائمه ومخزونه الثّقافي وذكرياته ومشاعره، ويختبر أثناء ذلك مفاهيم الحياة؛ الشّجاعة، والحبّ، والوفاء، والتّضحية، والحرب والسّلام، والموت والحياة، متسائلا عن جدوى أفعاله، وكأنّه يكتشف نفسه من جديد، وهو عندما يمرّ بهذه المرحلة من السّرد يستغني عن استخدام ضمير المتكلّم، مشيرا إلى نفسه باستخدام ضمير الغائب.



هكذا؛ .. يدلّنا "تريستانو" كيف نكتشف أنفسنا بالكلمات؛ نسمَع أصواتنا قبل أن تتحوّل إلى صدى، فالكلمات تملكُ حياةً معنويّة لا يليقُ بها أنّ نأخذها معنا إلى قبورنا، ولنهتف بصوته العميق وهو يقول : "إنّ الصّخور لا تقول شيئا... إنَّني صَخْرة مُتكلِّمَة، تَقِفُ عند حافَّة الفَيضَان. أقِفُ هناك بسلام، وأنظرُ إلى المياه، وأقول: امضِ يا أختي المياه، تابعي مجراكِ، لا أحد يعلم ما تظنين نفسك،.. إنَّني هنا ثابت عند الحياة".

Comments