" أوجاع الرّوح هي الرّوح؛ لأنّ الرّوح التي تَشْفَى مِنْ أوجاعِها تموت". /أنطونيو بورشيا.
.
.
.
(1) كيف نقرأ الصور؟
.
.
(1) كيف نقرأ الصور؟
صاحبة الأسود والأبيض ..
لا يتعلق الأمر بكوفيّتها ولا بالحجارة التي تجرح نعومة كفيّها، بل بطلاء أظافرها الأحمر.. ترى ماذا كان يجول في بال القاتل وهو يصوّب رشّاشه إلى وردتين تغفوان بوداعة فوق صدرها؟.
لا يتعلق الأمر بكوفيّتها ولا بالحجارة التي تجرح نعومة كفيّها، بل بطلاء أظافرها الأحمر.. ترى ماذا كان يجول في بال القاتل وهو يصوّب رشّاشه إلى وردتين تغفوان بوداعة فوق صدرها؟.
صاحبة الشُرفة ..
لا يتعلق الأمر بتهريب كتبها من حلب إلى ساحة المرجة في دمشق، ولا بتهريب شغفها عبر حدود تركيا واليونان ومقدونيا وصربيا وهنغاريا والنمسا، بل بقفل حديديّ شبكته فوق جسر العشّاق الألماني، كي يبقى حبّها وسوريا مغلقًا أمام النسيان.
صاحب الحياة..
لا يتعلق الأمر بجثمانه الأبيض.. ولا
بالمقبرة، ولا بكتبه تتناثر من صفحاتها الأولى إهداءات دافئة لا تشبه هذا الموت
البارد، بل بعبارته الخالدة: "نمزّق المناديل حين تمتدّ إلينا".
صاحبة الخرَز الأزرق ..
لا يتعلق الأمر بسرطان الثدي ولا بشعرها القصير جدا، بل بوجهها خرافي الجمال وصوتها السّاحر وهو يغني ترانيم القلب "المنطلق نحو الاكتشاف والفرح والحبّ والجنون".
صاحبة الخرَز الأزرق ..
لا يتعلق الأمر بسرطان الثدي ولا بشعرها القصير جدا، بل بوجهها خرافي الجمال وصوتها السّاحر وهو يغني ترانيم القلب "المنطلق نحو الاكتشاف والفرح والحبّ والجنون".
صاحب الكتاب..
لا يتعلق الأمر بحذائه المثقوب في الصباحات الباردة، ولا بحفلات الإعدام الجماعي في غرفة الغاز الخانقة، بل بـصوت دوستويفسكي في قلبه وهو يقول: " يوجد شيء واحد فقط يروعني؛ ألا أكون جديرا بآلامي".
لا يتعلق الأمر بحذائه المثقوب في الصباحات الباردة، ولا بحفلات الإعدام الجماعي في غرفة الغاز الخانقة، بل بـصوت دوستويفسكي في قلبه وهو يقول: " يوجد شيء واحد فقط يروعني؛ ألا أكون جديرا بآلامي".
(2) "اليأس هو المعاناة منقوص منها
المعنى"/ فيكتور فرانكل
المفارقة، إنني كنتُ أقلّب ألبوم الصور حولي وفي نشرات الأخبار، عندما أدركت أنّ البعوضة التي أحالت أمسيتي إلى جحيم، تشكّل أكبر عذاباتي، وبشكل لا إرادي، قلتُ على لسان ماري إنطوانيت: ".. كل هذا من أجل الخبز؟. الكعك يصلح للأكل أيضًا"؛ بعد أن قارنتُ حالتي بما نُسِبَ إليها دون دليل.
لكن، هل يمكن قياس المُعاناة ومقارنتها؟
أعجبني تفسير الطبيب النفسي فيكتور فرانكل لهذه المسألة، إذ يشبّه مُعاناة الإنسان بما يفعله الغاز؛ فلو أنّ كميّة مُعيّنة من الغاز جرى ضخها في حجرةٍ فارغة، فإنها سوف تملأ الحجرة كلها بالتساوي، وبصرف النظر عن حجمها. كل إنسان يشعر في لحظةٍ ما ،أن معاناته هي الأكبر، حتى لو لم يتجاوز الأمر لسعات "بعوضة".
إيمان "فرانكل" بنسبيّة المعاناة، دفعه لاستثمار تجربته الشخصيّة بصفته أحد الناجين من معسكرات الاعتقال النازي؛ حيث تُحرَق جثث الضعفاء والمرضى غير القادرين على العمل، أو يجري إعدامهم، وحيث يناضل السجين للحصول على قطعة خبز، مختبرًا العمل المرهق والبرد وتوقع الموت في كل لحظة، للإجابة عن السؤال: هل يستطيع الإنسان أن يختار الحياة، رغم الموت والعذاب والألم واليأس والضعف الذي يحاصره من كل جانب؟.
المفارقة، إنني كنتُ أقلّب ألبوم الصور حولي وفي نشرات الأخبار، عندما أدركت أنّ البعوضة التي أحالت أمسيتي إلى جحيم، تشكّل أكبر عذاباتي، وبشكل لا إرادي، قلتُ على لسان ماري إنطوانيت: ".. كل هذا من أجل الخبز؟. الكعك يصلح للأكل أيضًا"؛ بعد أن قارنتُ حالتي بما نُسِبَ إليها دون دليل.
لكن، هل يمكن قياس المُعاناة ومقارنتها؟
أعجبني تفسير الطبيب النفسي فيكتور فرانكل لهذه المسألة، إذ يشبّه مُعاناة الإنسان بما يفعله الغاز؛ فلو أنّ كميّة مُعيّنة من الغاز جرى ضخها في حجرةٍ فارغة، فإنها سوف تملأ الحجرة كلها بالتساوي، وبصرف النظر عن حجمها. كل إنسان يشعر في لحظةٍ ما ،أن معاناته هي الأكبر، حتى لو لم يتجاوز الأمر لسعات "بعوضة".
إيمان "فرانكل" بنسبيّة المعاناة، دفعه لاستثمار تجربته الشخصيّة بصفته أحد الناجين من معسكرات الاعتقال النازي؛ حيث تُحرَق جثث الضعفاء والمرضى غير القادرين على العمل، أو يجري إعدامهم، وحيث يناضل السجين للحصول على قطعة خبز، مختبرًا العمل المرهق والبرد وتوقع الموت في كل لحظة، للإجابة عن السؤال: هل يستطيع الإنسان أن يختار الحياة، رغم الموت والعذاب والألم واليأس والضعف الذي يحاصره من كل جانب؟.
"فرانكل" الذي وجد نفسه، فجأة، وحيدًا متجردًا إلا من نظارته وحزامه وجسده الهزيل، بعد أن فقد أسرته التي أرسلت إلى أفران الإعدام بالغاز، اقتيد هو الآخر، عام 1942، إلى معسكر "ثيريشينشنات" بجوار مدينة براغ في تشيكوسلوفاكيا، ثم معسكري "داشاو" و"آوشويتز" في ألمانيا، لكنه واصل اهتماماته العلمية في ظروفٍ أقل ما يمكننا وصفها به، إنها تنزع عن الإنسان إنسانيته، واستطاع ابتكار نظريته والتأسيس لمدرسة نفسيّة هي "العلاج بالمعنى" Logotherapy التي ترتكز على ما يسمى إرادة المعنى، وهي الثالثة بعد مدرستيّ: "سيغموند فرويد" (1856- 1939) التي تمركزت حول إرادة اللذة، و"ألفرد آدلر" (1870- 1937) التي اهتمت بإرادة القوّة.
(3) " إنَّ المعاناة تتوقف عن كونها معاناة، في اللحظة التي تكتسب فيها معنى"/ فيكتور فرانكل
لا بد من الإشارة إلى أنني لا أسعى لتفسير نظرية "العلاج بالمعنى"؛ فهذه مهمّة عسيرة حتى على الطبيب فيكتور فرانكل نفسه، كما أنني غير معنيّة بتقديم قراءة لكتابه- وهو بالمناسبة منشور بالعربية تحت عنوان "الإنسان والبحث عن معنى/.. معنى الحياة والعلاج بالمعنى) عن دار القلم، وبترجمة الدكتور طلعت منصور-، لكنني ببساطة، أحاول الإضاءة على تجربة إيجابية قد نستفيد منها، أو نطورها –بشكلٍ فردي-؛ للتغلب على عذاباتنا أو للتمكن من احتمالها على الأقل.
"الويل لمن لا يرى في الحياة
معنى"؛ يقول فرانكل الذي جعل من مقولة نيتشة "من يمتلك سببًا ليعيش من
أجله، فإنه يستطيع غالبا، أن يتحمل بأية طريقة وبأي حال"، أساسًا في علاجه.
ويرتكز العلاج بالمعنى على مساعدة المريض على البحث عن معنى لوجوده في الحياة، وهو الأمر الذي يشكل القوة الدافعة الأولى نحو الاضطلاع بمسؤوليته البشرية كي يجد حلولًا لمشكلاته، حيث لاحظ "فرانكل" – أثناء تجربة المعتقل-، أن المساجين الذين يشعرون بعبثية وجودهم، كانوا يقدمون على الانتحار دون تردد، فيما أثبت هؤلاء الذين آمنوا بأن لحياتهم (هدفًا/ غاية/ معنى )، أنهم الأقدر على مواجهة المصاعب؛ فالعلاج بالمعنى – وفقًا لفرانكل- يمنح الإنسان سببًا للأمل ولمواصلة الحياة.
وفيما يذهب " سارتر" إلى أن الإنسان يخترع نفسه ويصمّم جوهره؛ أي يبتدع ويصمم حقيقة ماهيته، بما في ذلك ما ينبغي أن يكون عليه أو يصير به، يعتقد "فرانكل" أن معنى وجودنا ليس أمرًا نبتدعه نحن أنفسنا، وإنما هو بالأحرى أمر نكتشفه ونستبينه.
هذا يعني أنه يتوجب علينا السعي لمعرفة معنى حياتنا؛ أي "الشيء/أو الشخص الذي نعيش من أجله"، أو حتى "الشيء أو الشخص الذي يجعلنا على استعداد للموت من أجله"، مع الإشارة، إلى أنَّ السؤال عن معنى الحياة قد يصبح غير ذي موضوع من الناحية الواقعية؛ بحسب فرانكل، الذي يؤكد أنه "علينا التوقف عن السؤال عن معنى الحياة، وأن نفكِّر في أنفسنا كما لو أنها في موضع تساؤل من قبل الحياة"؛ فلكل فرد رسالته الخاصة التي تفرض عليه مهامًا محددة عليه أن يقوم بتحقيقها،وانطلاقا من هذه النقطة، نستطيع أن نخلص إلى أن العلاج بالمعنى يرى في "الالتزام بالمسؤولية" الجوهر الحقيقي للوجود الإنساني، وهذا يتضمن، بطبيعة الحال، الاعتقادات الدينيّة والروحانيّة.
ويرتكز العلاج بالمعنى على مساعدة المريض على البحث عن معنى لوجوده في الحياة، وهو الأمر الذي يشكل القوة الدافعة الأولى نحو الاضطلاع بمسؤوليته البشرية كي يجد حلولًا لمشكلاته، حيث لاحظ "فرانكل" – أثناء تجربة المعتقل-، أن المساجين الذين يشعرون بعبثية وجودهم، كانوا يقدمون على الانتحار دون تردد، فيما أثبت هؤلاء الذين آمنوا بأن لحياتهم (هدفًا/ غاية/ معنى )، أنهم الأقدر على مواجهة المصاعب؛ فالعلاج بالمعنى – وفقًا لفرانكل- يمنح الإنسان سببًا للأمل ولمواصلة الحياة.
وفيما يذهب " سارتر" إلى أن الإنسان يخترع نفسه ويصمّم جوهره؛ أي يبتدع ويصمم حقيقة ماهيته، بما في ذلك ما ينبغي أن يكون عليه أو يصير به، يعتقد "فرانكل" أن معنى وجودنا ليس أمرًا نبتدعه نحن أنفسنا، وإنما هو بالأحرى أمر نكتشفه ونستبينه.
هذا يعني أنه يتوجب علينا السعي لمعرفة معنى حياتنا؛ أي "الشيء/أو الشخص الذي نعيش من أجله"، أو حتى "الشيء أو الشخص الذي يجعلنا على استعداد للموت من أجله"، مع الإشارة، إلى أنَّ السؤال عن معنى الحياة قد يصبح غير ذي موضوع من الناحية الواقعية؛ بحسب فرانكل، الذي يؤكد أنه "علينا التوقف عن السؤال عن معنى الحياة، وأن نفكِّر في أنفسنا كما لو أنها في موضع تساؤل من قبل الحياة"؛ فلكل فرد رسالته الخاصة التي تفرض عليه مهامًا محددة عليه أن يقوم بتحقيقها،وانطلاقا من هذه النقطة، نستطيع أن نخلص إلى أن العلاج بالمعنى يرى في "الالتزام بالمسؤولية" الجوهر الحقيقي للوجود الإنساني، وهذا يتضمن، بطبيعة الحال، الاعتقادات الدينيّة والروحانيّة.
(4) الديناميات المعنويّة
هناك لحظة كَشْف، اختبرها هؤلاء الذين يمثلون قبلة إعجابنا بتحدّيهم وصمودهم وصبرهم وإنجازهم؛ تلك اللحظة التي ارتقت بإنسانيتهم لا تتجاوز إدراكهم لمعنى الحياة، فيما شكلت آلامهم وظروفهم القاهرة "الديناميات المعنويّة" التي استدعت العزيمة لتحقيق ذاك المعنى الكامن فيهم وفينا.
" إذا أراد مهندسون معماريون تقوية قنطرة متداعية لللسقوط، فإنهم يزيدون من الحمل الذي يوضع عليها؛ لأن الأجزاء بهذه الوسيلة تترابط بشكل أكثر تماسكًا"؛ يقول "فرانكل"، مؤكدًا أنّ الصحة النفسيّة تستند إلى درجةٍ من التوتر- التوتر بين ما أنجزه الفرد بالفعل وما لا يزال عليه أن ينجزه، أو الفجوة بين واقع الفرد وما ينبغي أن يصير عليه-، تستدعي "إرادة المعنى" من حالة كمونها.
هذا الأمر يفسّر العملاق الذي ينهض فينا
عندما تشهر الآلام أنيابها في حياتنا، ويفسِّر صمود الشعوب وإنجازاتها عندما تقاوم
اضطهاد الاحتلال،والمريض عندما يقاوم الموت بالانغماس في الحياة، والفقير عندما
يجابه الجوع بنبل أخلاقه، وزغرودة الأم وهي تضع قبلة الوداع على جبين ابنها
الشهيد، ورقص حسين البرغوثي عندما أيقن أنه مريض بالسرطان لا الإيدز، وكُتب طه
حسين، وموسيقى بيتهوفن، و...الخ.
هذا يعني أنّ التحديات هدايا إلهيّة لاستنهاض الهمم –لمن يجرؤ على استثمارها-، مقارنة بحالة الملل والتثاؤب التي تفضي-غالبًا- إلى "اللا معنى" أو "الخواء" أو "الفراغ الوجودي" الذي يشكّل أساسًا للانغماس في الشّهوات على حساب العمل الجاد والإنجاز، ويودي بإنسانيتنا إلى الإدمان والانحلال الأخلاقي والفشل والانتحار.
(5) "الإنسان يعلو على الإنسان بالبحث عن المعنى" / مصطفى محمود
المدهش، أن "معنى الحياة" الذي يستنهض العملاق في أعماق شخص ما، قد لا يثير حماسنا لترك فراشنا بعد ليلة نومٍ غير مريحة، الأمر الذي يؤكد على "خصوصيّة" المعنى الذي يشكله لكل فرد، وقد لا نصدق فرانكل وهو يختصر "معنى الحياة" الذي دفعه للصمود، قائلا: " بالنسبة لي ، حين جرى اعتقالي بمعسكر آوشويتز، صادرت السلطات لي مخطوطًا لكتابٍ كان في سبيله إلى النشر، ولا شك، أن اهتمامي العميق بكتابة هذا المخطوط من جديد، قد أعانني على البقاء وسط أهوال المعسكر".
"المعنى" الذي يختصره بعضهم في الإنجاز وتحقيق الطموحات الماديّة أو المعنويّة، قد يشكّل عند آخرين، الدفاع عن العقيدة والقناعات والمبادئ، أو اختبار قيمة من القيم؛ مثل الحبّ – بمعناه الواسع - أو الصدق والإيثار والنبل والكَرَم والكرامة ..الخ، أو ربما يختصر بعضنا معنى الوجود بإنسان آخر "نعيش من أجله" أو "نموت لأجله"!، أو مجرد الصمود ونحن نعيش عذابنا الشخصي، وهو هنا، في هذه الحالة لا يعبَّر أبدا عن اليأس؛ فالموت بصمود أو تحمّل العذاب بشجاعة لا يتعارض مطلقًا مع قيمة الأمل، بل يمثِّل أقصى درجات الإيمان بمشيئة الخالق.
(6) " لقد دعوتُ الله من سجني الضيّق، فأجابني في رحابة الكون"/ فرانكل
بشكلٍ شخصي، عشتُ حياةً مارستُ فيها التثاؤب إلى درجة استنزاف كل القدرات التي أودعها الله في أعماقي، لكنّه الرحمن الرحيم، إذ وضعني أمام لحظة كشفٍ عظيمة، استدعت وقتها "إرادة المعنى" الهائلة التي كانت مدفونة تحت ركام الهدوء والسعادة السطحيّة والأنانيّة المطلقة وانعدام الأهداف.
لا أنكر أنني ما زلتُ أميل إلى معاقرة الكسل اللذيذ؛ ومصادقة الاكتئاب أحيانًا، وإطلاق العنان لهوايتي في التفجّع والظهور كضحية، لكنني، رغم كل شيء، تعلمت أن أقف بين فترةٍ وأخرى، في محطات للبحث عن "معنى الحياة"؛ حياتي، متمثلة قول فرانكل: " كل شيء يمكن أن يؤخذ من الإنسان، عدا حريته في اختيار طريقه تحت أقسى الظروف".
Comments