الكاتب و"الآخر"




*لانا المجالي 


يندلقُ الضوء فور خروجنا من قاعة السينما، أفرك عينيّ وأتبادل التحيّة مع شخصٍ كان يجلس على مسافة أربعة مقاعد مني. تقول صديقة نكتة. تعترض أخرى، وأبتسم، ثم نهرع إلى مطعمٍ قريب تصحبنا شمس طفيفة ونسمات مشاكسة. 


كان بالإمكان أن أصف المشهد على هذا النحو، أو ربما هناك مسرّات غيرها تخطر على البال، لو لم تقيّدني شخصيات مُختَلقَة إلى مكتبي، بحجّة تسجيل يوميّاتها ورصد علاقاتها بآخرين لا أعرفهم. أجلس تحت سياط الكلمات، لا حولَ لي ولا قوّة؛ أرِقة نصف جائعة، أغبطُ قطتي على استسلامها للخدر اللذيذ، متأمّلة مقولة فلوبير "إنَّ حياة الكاتب هي حياة كلب، لكنها وحدها التي تستحقّ أن تُعاش"، بيدَ أن ليس فيما نفعل تحت إلحاح الرغبة في الكتابة، حريّة. 


ثمّة فرد هو واحد، وذات يوم يبتكر كاتبًا، ويصبح خادمًا له، ومنذ تلك اللحظة، يعيش كما لو كان اثنين، كما يقول كارلوس ليسكانو؛مفسّرًا حالة الوقوع تحت جحيم الثنائيّة، حيث يسير "الآخر/ المبتكَر" نحو تحقيق متطلبات الكتابة، عكس رغبة " المبتكِر" بممارسة حياة طبيعية، مهددًا بالانسلاخ عن صاحبه دون جدوى،معترفًا أنه لو حذف الساعات التي أمضاها في الكتابة، وفي التفكير فيما عليّه أن يكتبه، وفي تدوين ملاحظات من أجل الكتابة، فإنه لن يبقى أي شيء في حياته، أي شيء على الإطلاق. 

ورغم رفضي فكرة الابتكار التي اعتنقها ليسكانو، معتقدة أن "الآخر" مكوّن أصيل في تركيبة الشخص الكاتب، لكنه توارى بفعل ممارسات تربويّة وتوجهات مجتمعيّة تحارب التفرّد وتدفن ملكة الإبداع، إلا أنني أتفق معه حول ساديّة "الآخر" ومازوشيّة الكاتب التي نجد ما يشبهها في مسرحية "نهاية اللعبة" لصموئيل بيكيت، تمثلها العلاقة التي تربط بين "هام" الضرير المقعد داخل كرسيه المتحرك، و"كلوف" خادمه أو ابنه الذي لا يستطيع الجلوس لعلّةٍ في قدميه، مكرّسًا حياته لتنفيذ أوامر سيدّه المستبدّ، مهددًا بهجره، رغم حاجة كل منهما إلى الآخر التي يكشفها مثل هذا الحوار: 


هام: لماذا تبقى معي؟/ كلوف: لماذا تبقيني؟/ هام: ليس من رجل آخر./ كلوف: ليس من مكانٍ آخر./هام: مع ذلك تتركني./ كلوف: أحاول./ هام: أنت لا تحبّني./ كلوف: كلا./ هام: فيما مضى كنت تحبّني./ كلوف: فيما مضى./ هام: آلمتك كثيرًا، أليس كذلك؟/ كلوف: ليس هذا المهم./ هام: ألم أعذبك كثيرًا. / كلوف: نعم. / هام: آه، مع ذلك أعتذر. أقول أعتذر./ كلوف: أنا سامع. ألم تنزف اليوم؟/ هام: أقل من البارحة. ألم يحن وقت المسكّن؟/ كلوف: كلا. 

وبعيدًا عن "نهاية اللعبة"، قريبًا من واقع الكتّاب الذي يسجّل غياب أسماء كثيرة خلف شواهد إنجازاتهم الأولى الصغيرة، أو حتى الكبيرة؛ كما فعل سومرست موم (1874-1965) الذي أعلن وفاته إبداعيًا بتوقفه عن الكتابة عام 1948- ، ما يؤكّد أن "الآخر" قد يستسلم أحيانًا لرغبة صاحبه في معاقرة حياة أقل تعبًا-، تنشأ علاقات تتباين حدّتها بين الكتّاب الناجحين و"الآخر" فيهم، نستطيع مقارنتها بالوعي واللاوعي عندما لا يتعارضان، وإنما يكفل أحدهما الآخر، ويشكلان معًا مجموعة هي الذات. 

إيزابيل الليندي، مثلا، تضرب موعدًا معه في الثامن من أيار، وهو التاريخ الذي تبدأ فيه العمل على كل كتبها-"هل يمكنكم تخيل السابع من أيار؟ إنّه الجحيم"؛ كما تقول- بعد أن تقطع خطوات معدودة من المطبخ باتجاه الملحق الصغير المقابل للمسبح حيث مكتبها،وعادةً ما يكون الجو ممطرًا، تمشي بمظلتها وكلبها يتبعها،قبل أن تصل إلى إيزابيل "الأخرى" في العالم الآخر!. 

هيلير بيلوك، فصل بين حياته الشخصيّة وإنجازات "الآخر" توأمه، إذ تمنى أن يقال بعد موته:"خطاياه كانت فاحشة، لكن كتبه كانت تُقرأ"، أما أنسي الحاج، فقد عبّر عن الشكل التقليدي لهذه العلاقة، بقوله إنه ما أعاد قراءة شيء كتبه إلا شعر أن ثمّة من يسكنه، فيكتب حين يريد، وبعد أن تعييه مغالبته. 

الأمر أكثر تعقيدًا عند فرناندو بيسوا الذي مارس منذ طفولته حتى موته مهنة "البدلاء" حتى وصل عددهم إلى 72 اسمًا؛ هؤلاء الذين أعطاهم حياة وطبائع وأسلوبًا خاصًا بهم، يقول إنه لكي يبدع، دمّر نفسه التي أخرجها جيدًا إلى الداخل!، وفي أبلغ تعبير عن هذه الثنائية ينبّه إلى إنه حين لا يبدو متوافقًا مع نفسه:" لو استدرتُ إلى اليمين، ها أنا أستدير إلى اليسار، لكنني أنا نفسي دائمًا، مزروعًا بقدميّ!". 


كيف أصف المشهد الآن؟

ما زلتُ جالسة تحت سياط الكلمات، لا حولَ لي ولا قوّة؛ أرِقة نصف جائعة،أغبطُ قطتي على استسلامها للخدر اللذيذ، بينما يانيس ريتسوس يقرأ عليّ: 

وقف ثلاثتهم أمام النافذة، ينظرون إلى البحر./ الأول تحدَّث عن البحر./ الثاني أنصَتَ./الثالث لم يتحدَّثْ، ولم ينصت. بل كان عميقًا في البحر./طفا خلف زجاج النافذة، كانت حركاته بطيئةً/ صافية، في الزرقة الخفيفة الشاحبة./ كان يستكشف سفينةً غارقة./قرعَ الجرس الميّت لساعة السفينة، فارتفعت فقاعاتٌ دقيقةٌ، تنفجرُ بصوتٍ ناعمٍ- فجأة-/سأل الأول: هل غرق؟/أجاب الثاني: غرق./ الثالثُ نظر إليهما عاجزًا من قاع البحر، كما ينظر المرء إلى الغرقى". 


عندها في هذه اللحظة، تمامًا، أدركتُ الحقيقة الهائلة؛ لقد كنتُ –دائمًا- الرجل الثالث. 


________ 


*العدد 44 من مجلة الإمارات الثقافية. 




Comments