يوميات القراءة





(1)

 قراءة كتاب للمرّة الأولى في حياتنا تشبه تجربة الحبّ الأوّل؛ الفرح والخوف والقلق والدّهشة، لكنّنا عادةً ننسى اسم الحبيب وشكله وصوته وملامحه وتفاصيل العلاقة التي تدفعنا إلى خيانته مع كل كتاب آخر نلتقيه.
 وإن كان آلبرتو مانغويل الطفل وصف تجربته الأولى في فكّ رموز كلمة مكتوبة على ملصقة جداريّة إعلانيّة أنّها "بمثابة اكتشاف لحاسّة جديدة"، فإنني أفضّل أن أقول إنها اكتشاف لحاسّة الحواسّ؛ فالقراءة باعتبارها سيرورة ذهنيّة فيسيولوجيّة - حسب دراسة جيل تريان ( من أجل سيميائية القراءة) - : عملية إدراك، وتحديد، وتخزين للعلامات، تسبق كل تحليل للمحتوى، حيث يستدعي القارئ خلالها  وظائف الدماغ المختلفة وحواسّ البصر والسَّمع والشمّ والذَّوق واللَّمس،  رغم أنّ مانغويل نفسه يؤكّد في مكانٍ آخر: " إلّا أنّني عندما لمستُ بعد سنوات، للمرّة الأولى، جسد حبيبتي الغضّ، أدركتُ تماما أنّ الأدب كانَ متخلّفًا كثيرًا عن الحقيقة".


( 2)
لن أنسى رواية "مئة عام من العزلة" لماركيز بوصفها أوّل كتاب كرهته، تحديدا الفصل الثالث، حيث أصبتُ بطاعون الأرق.
في البداية فرحتُ، وقلت مع أهل ماكوندو: "أفضل لنا ألا ننام؛ لأنّ الحياة تغدو أكثر خصبًا"، قبل أن أفطن إلى أنني غدوت دون ذاكرة .. النّسيان الذي أيقظه ماركيز، كان أقصى مخاوف عقلي الباطن.
عندما شفيت من هذا المرض بعد سنوات طويلة، وقعت في عشق الكتب التي كرهتها، ووجدتني أردّد مع  فرانز كافكا :" أظن أنه علينا فقط أن نقرأ الكتب التي تؤلمنا أو تطعننا. إن لم يوقظنا الكتاب بضربةٍ على الرأس، لماذا نضيع وقتنا في قراءته؟".


( 3 )
قراءة واحدة لا تكفي؛ قراءة للمتعة. قراءة للمعرفة. قراءة للنّقد. قراءة للشّغَف، والقارئ مُتَعَدِّد الشّخصيات هو سرّ بلوغ "تردّد عتبَة" النّصّ.


( 4 )
في كل رواية ستلمح مقتطفات من سيرتك الذاتيّة، وبعض أحلامك غير المتحقّقة، والكثير من مخاوفك. .. لكن تجنّب أن تتحوّل إلى أحد نوعين من القرّاء حذّر أورهان باموك منهما:
القارئ السّاذج الذي يقرأ الكتاب على أنّه سيرة ذاتيّة، أو تجارب واقعيّة، مهما حاولت إقناعه بأن ما يقرأه هو رواية!، والقارئ الحسّاس الذي يعتقد بأنّ كل النصوص خياليّة، مهما حاولت إقناعه بأن معظم ما يقرأه هو سير ذاتيّة صريحة.


(5)
الكتب المعرفيّة والفكريّة مُدانة حتى تثبت براءتها. لا تتخلَّ عن عقلك أثناء سبر أغوارها. حاكمها واستعن عليها بكتبٍ مُدانة أخرى.


(6)
ارفع الرّاية البيضاء عندما تقرأ الشّعر، استسلم له، واتركه يأخذك حيث ستنبت لك أجنحة.
المفتاح لقراءة الشّعر كما تقترح فرجينيا وولف هو القارئ العادي؛ إذ تشير إلى عبارة وردت في كتاب الدكتور جونسون عن حياة جراي يقول فيها: " إنه ليسعدني أن أتفق في الرأي مع القارئ العادي؛ فإدراك القارئ الفطري – الذي لم يفسده التحيّز الأدبي المكتسب بالمهارات الرفيعة، والتّعصب العلمي- يجب أن يكون هو القول الفصل الذي يقرّر أسس التفوق في الشعر"، مؤكدة أنها- العبارة-  يجب أن تعلّق في إطار في تلك الغرف التي نبالغ كثيرا فنسميها مكتبات، على الرغم من أنها مكدّسة بالكتب التي يتابع قراءتها قوم معينون!. 


(7)

لا تسمح للآخرين بالتجسّس على تفاصيل روحك، فالملاحظات التي ندوّنها على هوامش صفحات الكتب أثناء القراءة تكشف مفاتيح شخصياتنا، ومشاعرنا البكر تجاه الأشياء، فلنحتفظ بها لأنفسنا، ولنراجعها بين فترةٍ وأخرى؛ لندرك حجم التغيير الذي طرأ علينا، أو- على الأقل-  لاختبار سلامة "ذاكرتنا الأدبيّة"؛ كما حدث مع إحدى شخصيات قصص باتريك زوسكند "ثلاث حكايات و ملاحظة تأملية" ؛ عندما  لاحظ أنّ  الخطوط والأفكار والانفعالات التي كتبها "قارئ سابق" على صفحات كتاب بين يديه، تؤكّد أنّه يرتبط معه بعلاقة توأمة أدبيّة، قبل أن يكتشف أخيرا أنّها مكتوبة بخطّ يده نفسه.


(8)
لم يكن بورخيس متطرفًا عندما صرّح :"فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا، أما أنا فأفتخر بتلك التي قرأت"؛ لأنّ الكاتب يتنازل عن كلماته بمجرد الانتهاء من كتابتها ونشرها، حيث تتحوّل ملكيتها بالكامل إلى القارئ، ومن الأجدر أن نتفاخر بمكتسباتنا، لا بخسائرنا.


(9)
تستطيع أن تهجر حبيبتك القارئة دون أيّ شعور بالذنب؛ سوف تنساك بعد أوّل جملةٍ فعليّة  يقولها رجل لا يشبهكَ داخل كتاب.


عليكِ أن تفكّري  ألف مرّة قبل أن تهجري حبيبك القارئ؛ سوف يقتله الشّوق كلّما لمح ابتسامة امرأة  تشبهكِ داخل كتاب.
_______
*مجلة الإمارات الثقافية /العدد 48

Comments